المنتدى العربي لعلم الإجتماع
أهلا بك عزيزي الزائر في المنتدى العربي لعلم الإجتماع

نتمنى لك أطيب الأوقات في منتدانا الرائع

و ننصحك بالتسجيل لتتمتع بكامل الخصائص المتاحة في المنتدى.


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

المنتدى العربي لعلم الإجتماع
أهلا بك عزيزي الزائر في المنتدى العربي لعلم الإجتماع

نتمنى لك أطيب الأوقات في منتدانا الرائع

و ننصحك بالتسجيل لتتمتع بكامل الخصائص المتاحة في المنتدى.
المنتدى العربي لعلم الإجتماع
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أعداد الزوار
compteur de visite  compteur gratuit
الساعة الان
بحـث
 
 

نتائج البحث
 


Rechercher بحث متقدم

المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 1 عُضو حالياً في هذا المنتدى :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 1 زائر

لا أحد

[ مُعاينة اللائحة بأكملها ]


أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 16 بتاريخ 15/09/10, 06:30 pm

( الخضر ) بين النص القرآني والفكر الصوفي

اذهب الى الأسفل

( الخضر ) بين النص القرآني والفكر الصوفي Empty ( الخضر ) بين النص القرآني والفكر الصوفي

مُساهمة من طرف mawlana siyad 19/11/11, 10:37 pm

الحمد لله رب العالمين، سبحانه وتعالى له الحمد الحسن والثناء الجميل، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد ...
فلا يزال القصص القرآني نهرًا متدفقًا وبحرًا فياضًا بالعبر والعظات التي نتنسم شذاها، ونترسم خطاها، ونقتبس ضياها، ونقتدي بهداها، عظة وعبرة وهداية ورحمة، وحججًا ساطعات، وآيات بينات تنطق بصدق هذا الكتاب المبين المنزل من عند رب العالمين، على قلب رسوله الأمين {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 70]، ومن هذا الكتاب العظيم نقف مع قصة من قصصه نستلهم منها دروسًا وفوائد وعبرًا.
والقصة هي قصة الخضر وموسى عليهما السلام التي وردت في القرآن الكريم مفصلة في سورة الكهف، وأخرجها البخاري ومسلم وغيرهما، وقد حرَّف المتصوفة معانيها وأهدافها ومراميها، وجعلوها عمودًا من أعمدة العقيدة الصوفية، فقد جعلوا هذه القصة دليلًا على أن هناك ظاهرًا شرعيًّا، وحقيقة صوفية تخالف الظاهر، وجعلوا إنكار علماء الشريعة على علماء الحقيقة أمرًا مستغربًا، وجعل الصوفية الخضر مصدرًا للوحي والإلهام، والعقائد والتشريع، ونسبوا طائفة كبيرة من علومهم التي ابتدعوها إلى الخضر، وليس منهم صغير أو كبير دخل في طريقهم إلا ادعى لقيا الخضر والأخذ عنه.
ولما كان لهذه القصة هذا الدور العظيم في الفكر الصوفي، أحببت أن أوضح هذا الأمر، ليقف القراء على حقيقة الأمر، ولنبدأ أولًا بالقصة في القرآن والسنة:
الخضر في القرآن الكريم والسنة المطهرة:
وردت قصة موسى مع الخضر عليهما السلام في سورة الكهف الآيات من (60-82)، وكذلك في الحديث الطويل الذي أخرجه الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما، والذي توسع أهل العلم في شرحه وبيان دقائقه.
ومن أجل تقريب القصة وتسهيل الكلام عليها، وبيان أحداثها وفوائدها، سنورد الآيات المقصودة من سورة الكهف مقطعًا مقطعًا، ثم نتبع كل مقطع بذكر الموضع الذي يشبهه من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الذي فيه سياق القصة كاملة أيضًا، ثم نعقِّب ببيان بعض معاني ذلك المقطع من تفسيري الحافظ ابن كثير والعلامة السعدي، رحمهما الله.
تبدأ القصة حين خطب موسى عليه السلام في بني إسرائيل، فسأله أحدهم عن أعلم الناس، فظن موسى عليه السلام ـ لكونه رسولَ رب العالمين ـ أنه أعلم أهل الأرض، فأجاب ذلك السائل بقوله: أنا، وقد كان الأَوْلى به عليه السلام أن يقول: (الله أعلم)؛ لأن مبلغ علم الرسل والأنبياء لا يبلغ أن يحيط بكل شيء، فالإحاطة بالعلم كله من صفات الله عز وجل وحده لا شريك له، فأراد الله عز وجل أن يبيَّن لموسى عليه السلام أن هناك مِن العباد مَن هو أعلم منه، ولذلك أمره أن يسير إلى مكان معين يلتقي فيه مع ذلك العبد العالم.
عن أُبي بن كعب رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ، فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ) فقرر موسى عليه السلام أن يسير إلى مجمع البحرين للقاء ذلك العبد الذي هو أعلم من موسى عليه السلام، والأقوال في تحديد مكان مجمع البحرين كثيرة، ليس لأي منها دليل معتمد.
يقول الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60].
قال العلامة السعدي رحمه الله: (يخبر تعالى عن نبيه موسى عليه السلام، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم، أنه قال لفتاه ـ أي: خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره، وهو يوشع بن نون الذي نبَّأه الله بعد ذلك ـ {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} أي: لا أزال مسافرًا وإن طالت عليَّ الشُّقَّةُ، ولحقتني المشقة، حتى أصل إلى مجمع البحرين، وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبدًا من عباد الله العالمين، عنده من العلم ما ليس عندك.
{أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} أي: مسافة طويلة، المعنى: أن الشوق والرغبة، حمل موسى أن قال لفتاه هذه المقالة، وهذا عزم منه جازم، فلذلك أمضاه).
وقد أوحى الله عز وجل إلى موسى علامة يعرف بها مكان ذلك العبد؛ ففي حديث أبي بن كعب: (قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ! فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ، وَانْطَلَقَ مَعَهُ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ، فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}، وَأَمْسَكَ اللهُ عَنْ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ).
وفي رواية أخرى للبخاري: (وَفِي أَصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا الْحَيَاةُ، لَا يُصِيبُ مِنْ مَائِهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ، فَأَصَابَ الْحُوتَ مِنْ مَاءِ تِلْكَ الْعَيْنِ، قَالَ: فَتَحَرَّكَ وَانْسَلَّ مِنْ الْمِكْتَلِ فَدَخَلَ الْبَحْرَ) []، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: ({فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} أي: مثل السَرَب في الأرض، قال ابن جريح: قال ابن عباس: صار أثره كأنه حَجَر.
وقال العوفي: عن ابن عباس: جعل الحوت لا يمس شيئًا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة)
وبعد ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}.
قال العلامة السعدي رحمه الله: ({ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} أي: نطلب، {فَارْتَدَّا} أي: رجعا، {عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} أي: رجعا يقصان أثرهما إلى المكان الذي نسيا فيه الحوت)
وفي حديث أبي بن كعب رضي الله عنه: (فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَا الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا}، قَالَ: فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا، فَقَالَ مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} قَالَ: رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ).
يقول العلامة السعدي رحمه الله: (وهذا من الآيات، قال المفسرون: إن ذلك الحوت الذي كانا يتزودان منه، لما وصلا إلى ذلك المكان، أصابه بلل البحر، فانسرب بإذن الله في البحر، وصار مع حيواناته حيًّا)
وهناك التقى موسى عليه السلام بالخضر، ودار حوار بينه وبينه، طلب فيه موسى أن يرافق الخضر؛ كي يتعلم من علمه، وفي هذا تواضع شديد منه عليه الصلاة والسلام.
يقول عز وجل: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا، قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا، قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}، والخضر من بني آدم، لكن كما قال الحافظ ابن حجر: (اختُلف في اسمه، وفي اسم أبيه، وفي نسبه، وفي نبوته، وفي تعميره].
وفي حديث أبي بن كعب رضي الله عنه: (فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى ثَوْبًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟! قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا، يَا مُوسَى! إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَكَهُ اللهُ لَا أَعْلَمُهُ، فَقَالَ مُوسَى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا).
وتبدأ الرحلة الغريبة العجيبة ههنا، ويقص الله عز وجل علينا ما وقع فيها، ثلاثة مواقف محيرة، لم يستطع موسى عليه السلام أن يكتم استغرابه لها، وأن يحافظ على عهده للخضر أن لا يسأله عن شيء يقع لهما أثناء صحبته له، يقول الله عز وجل: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}.
وفي الحديث الشريف: (فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُمْ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ قَدْ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا، قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا؟! قَالَ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا.
قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَانَتْ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا.
قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ).
ثم الموقف الثاني:
يقول الله عز وجل: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}، وفي حديث أبي بن كعب: (ثُمَّ خَرَجَا مِنْ السَّفِينَةِ، فَبَيْنَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ.
فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا؟! قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا، قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنْ الْأُولَى، قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا).
ثم الموقف الثالث:
يقول الله سبحانه وتعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} وفي حديث أبي بن كعب: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ مَائِلًا، فَقَامَ الْخَضِرُ فَأَقَامَهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا؟! قَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا).
تفسير المواقف العجيبة:
وأما تفسير سبب ما فعله الخضر عليه السلام في تلك المواقف العجيبة، فقد بيَّنه الخضر في حديثه لموسى، وقد حكى ذلك القرآن الكريم مفصلًا في ختام سياق القصة في سورة الكهف: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}.
فوائد مستخلصة من القصة:
ومن هذا العرض الكامل لنصوص القصة في القرآن وفي صحيح البخاري نستخلص الفوائد التالية:
1- أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يوجِّه نبيه موسى صلى الله عليه وسلم الذي قال جوابًا عن سؤال (لا أعلم على الأرض أعلم مني)!! أنه كان يجب أن يرد علم ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فأراه الله جل وعلا أن هناك عبدًا لا يعلمه موسى هو على علم من علم الله لا يعلمه موسى، وكان من أجل ذلك هذا اللقاء بين موسى والخضر.
2- أن الخضر بعد أن تم لقاؤه بموسى أخبره أن علم الخضر وعلم موسى بجوار علم الله سبحانه لا شيء، وأنهما لم ينقصا من علم الله إلا كما شرب العصفور من ماء النهر.
3- أن الشريعة التي كان عليها الخضر لم تكن في حقيقتها مخالفة للشريعة التي عليها موسى، وإنما كان يخفى على موسى فقط الخلفية التي من أجلها فعل الخضر ما فعله، ولذلك فإن الخضر عندما بيَّن لموسى الأسباب التي دفعته إلى خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار لم يستنكر موسى شيئًا من ذلك؛ لأن هذا كله سائغ في الشريعة، فإتلاف بعض المال لاستنقاذ بعضه جائز، فلو وكلت مثلًا رجلًا على عمل لك ثم جاء لصوص، أو ظلمه قطاع طريق ليستولوا على المال كله، ولم يجد هذا الوكيل وسيلة لدفعهم إلا بأن يدفع لهم بعض المال، ويتركوا بعضه لما كان ملومًا شرعًا، ولا يلام ممن وكله بل يستحسن فعله، وما فعله الخضر بالنسبة إلى السفينة لا يعدو ذلك فهو إنما أفسد السفينة فسادًا جزئيًّا لتظهر لأعوان ذلك الملك الظالم أنها غير صالحة فيتركوها، وبذلك تسلم من الغصب، ولاشك أن ما فعله الخضر في حقيقته إحسان لأصحاب السفينة؛ لأن الله أطلعه على شيء من المستقبل في أن ذلك الملك الظالم سيصادر السفن لأمر ما كما هو حال كثير من الرؤساء والملوك الظلمة يصادرون وسائل النقل أحيانًا إما لمصالحهم أو لمصلحة عامة.
فما فعله الخضر بالنسبة إلى السفينة موافق للشرع الإلهي تمامًا في كل دين وملة وليس مخالفًا للتشريع، وإنكار موسى في أول الأمر ناشئ من أنه لم يعرف الخلفية الغيبية التي كان الله قد أطلع عليها الخضر بوحي من عنده.
وأما قتل الغلام فهو كذلك سائغ في الشريعة إذا كان هذا الغلام سيكون ظالمًا لوالديه، مجبرًا لهما على الكفر، وكان هذا مما علمه الله مستقبلًا، وأطلع عليه الخضر، فكان قتله أيضًا سائغًا، وقد جاءت الشريعة بقتل الصائل المعتدي؛ حقًّا إن الشريعة لا تأمر بقتل الصائل إلا إذا باشر العدوان، والطفل هنا لم يباشر العدوان بعد، ولكن القتل هنا بأمر الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما سيكون.
وقد كان هذا منه سبحانه وتعالى رحمة بعبدين من عباده صالحين أراد الله جل وعلا أن لا يتعرضا لفتنة هذا الولد العاق فيتألما ألمين، الألم الأول أنه ولدهما وعقوق الأولاد شديد على قلوب الآباء، والثاني أنهما قد يبلغان الكفر ويتعبان في التمسك بالإيمان، وهذا عذاب آخر، فجمع الله سبحانه وتعالى لهما عذابًا واحدًا فقط وهو فقد الولد، وفيه خير لهما ولاشك؛ لأن صبرهما، أيضًا على فقده فيه خير لهما؛ فلما علم الله ذلك، وأطلع الخضر عليه، ونفذ هذا بأمر الله كان ذلك كله موافقًا للشريعة التي عليها موسى وعليها محمد صلى الله عليه وسلم وعليها سائر الأنبياء.
ولذلك لما قيل لابن عباس على هذه الحادثة: أيجوز أن نقتل الأولاد؟ قال: إذا علمت منهم ما علم الخضر فافعل: أي إن ذلك سائغ في الشريعة، ولكن أين مَن يُطلِعه الله على الغيب كما أطلع الخضر عليه السلام.
وأما مسألة بناء جدار لقوم بخلاء لم يبذلوا القِرَى ـ بكسر القاف ـ والضيافة الواجبة، فإن ذلك من باب مقابلة الإساءة بالإحسان، وهذا خُلق من أخلاق الشريعة الإسلامية والمسيحية واليهودية، وما فعله الخضر هو من باب الإحسان إلى قوم قدموا الإساءة.
ثم إن إحسانه لهذين الغلامين لم يتأت منهما إساءة، وكان أبوهما رجلًا صالحًا وهم في قرية ظالمة بخيلة، ولو هُدم جدار بيتهم لانكشف كنزهم، ولاستولى عليه هؤلاء القوم البخلاء، فلاشك أن ما فعله الخضر من بناء الجدار هو عين ما تأمر به كل شرائع الأنبياء التي أمرت بالفضل والإحسان، ورعاية اليتامى وحفظ حقوقهم.
فأي شيء يستغرب مما فعله الخضر، وأي حقيقة اطلع عليها الخضر تخالف ظاهر شريعة كان عليها موسى بل ما فعله الخضر موافق تمامًا لشريعة موسى ولشريعة عيسى ولشريعة محمد ولكل شرائع الله المنزلة، ولم يقل الخضر أو يفعل شيئًا يخالف ما كان عليه الأنبياء صلوات الله عليهم، وإنما فقط أطلعه الله على بعض أسرار المقادير، ففعل ما فعل من الحق الذي لا تنكره الشرائع بناء على هذه الأخبار والأنباء التي أطلعه الله عليها، وباختصار لم يفعل الخضر شيئًا مخالفًا لشريعة موسى، فافهم هذا جيدًا وتمسك به.
4- وجود الخضر عليه السلام على دين وشريعة غير شريعة موسى كان أمرًا سائغًا، وسنة من سنن الله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي كان يُبْعَث إلى قومه خاصة، ولذلك كان موسى رسولًا إلى بني إسرائيل فقط، ولم يكن رسولًا للعالمين، ولذلك لما سلم موسى عليه السلام على الخضر قال الخضر: وأنى بأرضك السلام، قال له موسى: أنا موسى، قال الخضر: موسى بني إسرائيل؟! قال: نعم، أي أنت مبعوث إلى بني إسرائيل ومنهم، ولذلك لم تكن شريعة موسى لازمة للخضر ولجميع الناس في زمانه، وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يجوز شرعًا أن يكون هناك من هو خارج عن شريعته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رسولٌ للعالمين، فلا يسع الخضرَ ولا غيرَه أن يتخلف عن الإيمان به واتباعه.
5- لاشك أن ما فعله الخضر فعله عن وحي حقيقي من الله، وليس عن مجرد خيال أو إلهام؛ لأن قتل النفس لا يجوز بمجرد الظن، ولذلك قال الخضر: وما فعلته عن أمري، فلم يفعل إلا عن أمر الله الصادق ووحيه القطعي، ومثل هذا الأمر والوحي القطعي قد انقطع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا وحي بعده، ومن ادعى شيئًا من ذلك فقد كفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ.
هل الخضر ولي أم نبي؟
قد يقول البعض: وهل ينبني على ذلك حكم؟ نقول: نعم. قال ابن المنادي: أول عقدة تحل من الزندقة أن يكون الخضر نبيًّا؛ لأن الصوفية يزعمون أن الولي أعظم من النبي، يقولون:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
إذًا: فالولي عندهم أعظم من النبي، وهذا ضلال مبين وزندقة؛ لأن النبوة ليست مكتسبة؛ بل هي منحة من الله عز وجل، فإثبات أن الخضر نبي أول عقدة تحل من هذا الحبل الطويل من الزندقة، وقد استدل العلماء على أنه نبي بقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، أي: ليس لي دخل في الذي فعلت، ويؤكد أنه نبي أن الله تبارك وتعالى قال: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65]، والله تبارك وتعالى لا يؤتي هذا العلم إلا لنبي.
أما كونه لم يُرسَل إلى قوم، فهذا هو الغالب على الأنبياء، ولذلك فإن من الفروق التي يذكرها العلماء بين الرسول والنبي: أن النبي قد يشرف بالنبوة لذاته، ولكن لا تُنَاط به رسالة، فكثير من الأنبياء لم يبلغوا رسالة تذكر، لكنهم شرفوا بهذا المنصب بأن صاروا أنبياء، بخلاف الرسول؛ فإنه لابد أن يرسل إلى قوم.
ولذلك قال العلماء: إن عدد الرسل أقل بكثير من عدد الأنبياء؛ لأن النبوة رتبة قد يشرف بها العبد بغير رسالة إلى قوم، بخلاف الرسل.
إذًا: الخضر عليه السلام على قول أغلب العلماء نبي، فليس بعجيب أن يتعلم نبي من نبي.
هل الخضر ملَك أم رسول أم نبي أم ولي؟
الظاهر من إطلاق القرآن أنه نبي، قال الشيخ الشنقيطي ـ رحمة الله تعالى عليه ـ في تفسير قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}: (ولكنه يُفهم من بعض الآيات أن هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة، وأن هذا العلم اللدني علم وحي.
ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها، والاستدلال بالأعم على الأخص في أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف، ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، أي: وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا، وأمر الله إنما يتحقق بطريق الوحي؛ إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا، ولاسيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها؛ لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى.
وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرْكُم بِالْوَحْيِ} [الأنبياء: 45]، و{إِنَّمَا} صيغة حصر].
وقال أيضًا رحمه الله: (وبهذا كله تعلم: أن قتل الخضر للغلام، وخرقه للسفينة وقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، دليل ظاهر على نبوته، وعزا الفخر الرازي في تفسيره القول بنبوته للأكثرين، ومما يستأنس به للقول بنبوته تواضع موسى عليه الصلاة والسلام له في قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، وقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}، مع قول الخضر له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68])
هل الخضر أعلم من موسى عليه السلام؟
الجواب: لا؛ لأن الخضر عليه السلام كان أعلم منه بهذه الجزئية التي علمه الله تعالى إياها؛ ليثبت لموسى عليه السلام أنه ليس أعلم من في الأرض فقط، أما في بقية العلم فلاشك أن موسى أعلم، ولاشك أن موسى أفضل من الخضر، ولذلك قال له الخضر لما نقر العصفور من ماء البحر: (يا موسى! إنني على علم من الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله علمك هو لا أعلمه أنا، بل لما قال له موسى عليه السلام: جئت أتعلم منك، قال: أما يكفيك أن الله كتب لك التوراة بيده).
إذًا: الخضر عليه السلام إنما هو أعلم من موسى بهذه الجزئية فقط، أما أنه أعلم من موسى بكافة الجزئيات الأخرى فلا.
وقد أراد الله عز وجل أن يؤدب موسى، وكذلك كل عالم ومفتي يجب أن يُرجع العلم إلى الله عز وجل، وهذا هو مستند قول العلماء بعد ذكر الفتوى: والله أعلم، فليس معنى قول المفتي: (الله أعلم) أنه يشك في فتواه؛ بل إنه يكل علم ذلك على الحقيقة إلى الله عز وجل، فإن المفتي قد يفتي في القضية ويرى أن هذا هو الصواب من وجهة نظره، ويكون الأمر على خلاف ذلك، وعلى هذا الأمر تُخرَّج فتاوى العلماء التي أخطئوا فيها بأنهم كانوا يظنون أن الحق فيما ذهبوا إليه.
الخضر عليه السلام في الفكر الصوفي:
من بيان الحقائق السالفة تتضح لنا الصورة الحقيقية لقصة الخضر عليه السلام، والاعتقاد الواجب فيه حسب الكتاب والسنة، ولكن المتصوفة جعلوا من هذه القصة شيئًا مختلفًا تمامًا، فقد زعموا أن الخضر حي إلى أبد الدهر، وأنه صاحب شريعة وعلم باطني يختلف عن علوم الشريعة الظاهرية، وأنه ولي وليس بنبي، وأن علمه علم لدني موهوب له من الله بغير وحي الأنبياء، وأن هذه العلوم تنزل إلى جميع الأولياء في كل وقت قبل بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، وأن هذه العلوم أكبر وأعظم من العلوم التي مع الأنبياء، بل وعلوم الأنبياء لا تدانيها ولا تضاهيها.
فكما أن الخضر وهو ولي فقط في زعمهم كان أعلم من موسى فكذلك الأولياء من أمة محمد هم أعلم من محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن محمدًا عالم بالشريعة الظاهرة فقط، والولي عالم بالحقيقة الصوفية، وعلماء الحقيقة أعلم من علماء الشريعة، وزعموا كذلك أن الخضر يلتقي بالأولياء ويعلمهم هذه الحقائق ويأخذ لهم العهود الصوفية، وأن الحقائق الصوفية تختلف عن الحقيقة المحمدية، ولذلك فلكل ولي شريعته المستقلة فما يكون معصية في الشريعة كشرب الخمر والزنا واللواط، قد يكون حقيقة صوفية وقربة إلى الله حسب العلم الباطني.
وكذلك في أمر العقائد ومسائل الإيمان؛ فلكل ولي كشفه الخاص، وعلمه الخاص اللدني الذي قد يختلف عن الوحي النبوي، وهكذا جعل المتصوفة من قصة الخضر بابًا عظيمًا لإدخال كل أنواع الخرافات والزندقة والجهل والإسفاف، بل بلغ الهذيان وحده عندهم حيث يوجد من زعم منهم أن الخضر لا يصلي لأنه على شريعة خاصة!! ومنهم من زعم أن الخضر يصلي ولكن على المذهب الحنفي!! ولكن صوفيًّا آخر يزعم أنه رأى الخضر يصلي ولكن على المذهب الشافعي!! بل وأكثر من ذلك زعموا أن الخضر هو الذي يلقنه أذكار الطريقة الإدريسية والسنوسية.
وهكذا أصبح الخضر الصوفي هذا ألعوبة عظيمة، ولم يكتفوا بذلك بل جعلوا في كل مكان في الأرض تقريبًا مكانًا زعموا أن الخضر جلس فيه أو رآه صوفي عنده، ولذلك أصبح له في كل أرض من أراضي الإسلام مقام ومزار، تذبح فيه الذبائح، وتقدم فيه القرابين، وينتفع بذلك الكذابون والغشاشون.
قال الدكتور ناصر القفاري حفظه الله: (أما الخضر وإلياس فإن الذي عليه المحققون من أهل العلم أنهما قد ماتا).
ويرى ابن حزم أن القول بحياة إلياس والخضر: (فكرة مأخوذة عن اليهودية، فاليهود هم الذين قالوا بحياة إلياس وحياة فنحاس بن العازار ابن هارون عليه السلام، وسار في سبيلهما بعض الصوفية فادعى أنه يلقى إلياس في الفلوات)
وكذلك قال الصوفية بحياة الخضر، ولهم حكايات في الاجتماع به والأخذ عنه
وقد اعتبر ابن حزم دعاوى الصوفية الأخذ عن الخضر خروجًا عن عقيدة ختم النبوة].
ودعوى بقاء الخضر إلى اليوم مخالف للدليل، وما عليه أهل التحقيق
ولابن حجر رسالة في تحقيق أمر الخضر، قال في خاتمتها: والذي تميل إليه النفس من حيث الأدلة القوية خلاف ما يعتقده العوام من استمرار حياته
وعلى تقدير حياتهما ـ يعني الخضر وإلياس ـ فلا تسلم لهما المقارنة؛ لأنهما ليسا بمكلفين في هداية هذه الأمة وقيادتها بخلاف إمامهم الذي هو مسئول ـ في اعتقادهم ـ عن المسلمين جميعًا في كل أمورهم)
وقال الشيخ جميل غازي رحمه الله: (إن للصوفية في الخضر عليه السلام اعتقادًا شاذًّا وغريبًا، فهم يقولون أنه ولي لا نبي، كما يزعمون أنه مازال حيًّا يرزق! وعلى هذه العقيدة الفاسدة أقاموا مزاعمهم التي تؤكد أن الولي أعلم من النبي.
لماذا؟! لأن موسى عليه السلام ذهب إلى الخضر ليتعلم منه، وأنه قد تعلم منه فعلًا أمورًا قد فصلتها سورة الكهف؛ والمعنى عندهم أن مقام النبوة أكبر درجة من مقام الرسول، وفي نفس الوقت فهي أقل درجة من مقام الولي.
ويضيف فضيلته: إن هذه العقيدة الزائفة هي التي جرَّأت أبا يزيد البسطامي وهو أحد كبار مشايخ الصوفية ـ فقال كلمته المشهورة: (لقد خضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله)، بل هي التي دفعت الصوفية إلى القول بالعلم اللدني الذي يتنزل عليهم، وعلى شيوخهم من لدن الله مباشرة، وبلا واسطة؟
ويستطرد قائلًا: وقبل أن نتكلم عن هذا العلم اللدني، نود أولًا في وقفة قصيرة نرد بها على تلك الأوهام التي يقول بها الصوفية عن حقيقة الخضر عليه السلام، إنهم يعتبرونه وليًّا لا نبيًّا، وهو زعم باطل بصريح القرآن الكريم، حيث يقول تعالى، وهو يتحدث عن الخضر عليه السلام: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا}، وفي تفسير هذه الآية يقول ابن كثير: إن فيها دلالة على نبوة الخضر، ويقول تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا}، وقد قال مقاتل، وهو أحد مفسري السلف في شرح هذا النص: إنها النبوة.
ويقول عز وجل: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، ويفسر الطبري هذه الآية بقوله: (وما فعلت يا موسى جميع ما فعلته عن رأيي ومن تلقاء نفسي، وإنما فعلته عن أمر الله إياي به)، ثم إن هذه النصوص تفيد أن الله تعالى أطلع الخضر على شيء من الغيب، وما كان تعالى ليطلع على هذا الغيب إلا الرسل.
وفي هذا يقول جل شأنه {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179]؛ كما يقول تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26-27].
ثم يعقب د.جميل غازي على دعوى الصوفية بأن الخضر عليه السلام مازال حيًّا بقوله: سئل الإمام البخاري عنه وعن إلياس عليهما السلام هل هما حيان؟ فأجاب: كيف هذا وقد قال النبي قبل وفاته بقليل: (أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ)
كما سئل عن ذلك بعض أئمة السلف فقرأ قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34]، ويقول الإمام ابن تيمية: (لو كان الخضر حيًّا لوجب عليه أن يأتي إلى النبي، ويجاهد بين يديه، ويتعلم منه)
كما يقول الشيخ علي محفوظ في كتابه "الإبداع في مضار الابتداع": (لو صح بقاء بشر من لدن آدم إلى قرب خراب الدنيا لحسن ذكر هذا الأمر العظيم في القرآن الكريم مرة على الأقل).
ويستطرد فضيلته قائلًا: (أما ما يزعمه الصوفية عن العلم اللدني، وإمكان الاستغناء به عن الوحي، فهذا زعم فيه ما فيه من الكفر والزندقة)
وختامًا؛ فالواجب على أهل السنة أن يسيروا على نهج النبي محمد صلى الله عليه وسلم عقيدة وعملًا وسلوكًا وقصدًا، وأن يستقيموا على سيرته ودينه، فصراط الله المستقيم هو ما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو طريق المنعم عليهم، قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
ونسأل الله أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يجنبنا طرق الغواية والضلالة، وأن يحسن لنا الختام، والحمد لله رب العالمين.

mawlana siyad
مكتبي جديد
مكتبي جديد

عدد المساهمات : 3
نقاط : 4594
السٌّمعَة : 5
تاريخ التسجيل : 30/10/2011
العمر : 40

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى